مع تسارع التحول الرقمي في المملكة العربية السعودية في ظل رؤية 2030، لا يمكن التقليل من أهمية مراكز البيانات. تُعد هذه المرافق حجر الزاوية في الاقتصاد الرقمي للمملكة؛ إذ تدعم مجموعة واسعة من الخدمات، مثل: الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي وتخزين البيانات ومعالجتها. وبناء على الطلب المتزايد على البنية التحتية الرقمية المتقدمة، أصدرت هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية لوائح شاملة تنظم عمليات مراكز البيانات. تهدف هذه الأطر إلى تشجيع الابتكار وجذب الاستثمارات وضمان الامتثال وفقًا للمعايير الدولية.
لا يخلو تطوير مراكز البيانات وتشغيلها في المملكة العربية السعودية من التحديات. إذ ما يزال التمويل اعتبارًا مهمًا؛ نظرًا للطبيعة القائمة على كثافة رأس المال في هذا القطاع. كما يتعين على المشغلين والمستثمرين التعامل متطلبات مع المشهد التنظيمي والمالي والبيئي والاجتماعي والحوكمة المعقد، لضمان توافق مشروعاتهم مع أهداف الاستدامة العالمية والوفاء بالالتزامات التنظيمية. تقدم هذه النشرة تحليلًا متعمقًا لهذه الجوانب المترابطة - التنظيمي والمالي، ومعايير البيئة والاجتماعية والحوكمة - المصممة خصيصًا لمشغلي مراكز البيانات ومموليها ومستثمريها.
لوائح خدمات مراكز البيانات في السعودية
تعد لوائح خدمات مراكز البيانات، التي دخلت حيز النفاذ في يناير 2024م، حجر الزاوية في إطار العمل التنظيمي للمملكة العربية السعودية. أعدت هذه اللوائح لتبسيط تأسيس مراكز البيانات وتشغيلها، وضمان الشفافية والموثوقية والتنافسية.
بموجب لوائح خدمات مراكز البيانات، يجب على جميع مشغلي مراكز البيانات التسجيل لدى هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، التي تصنفها إلى أربعة مستويات (مؤهل - محدود - قياسي - متقدم). يتوافق كل تصنيف مع نطاق التشغيل، والسعة التقنية، ومستوى الامتثال لمركز البيانات، فعلى سبيل المثال، يجب على المشغلين من فئة المستوى المتقدم الوفاء بمتطلبات صارمة تتعلق بجودة الخدمة، والأثر البيئي، وقدرات التعافي من الكوارث؛ مما يبين دورهم كمقدمي بنية تحتية حيوية.
يكمل دليل مقدم خدمات مراكز البيانات لوائح خدمات مراكز البيانات، إذ يقدم إرشادات مفصلة عن متطلبات التسجيل وإجراءاته.
تركز لوائح خدمات مراكز البيانات على مسائل من بينها الامتثال القوي والمساءلة التشغيلية لمقدمي خدمات مراكز البيانات. يجب على المقدمين الالتزام بالقواعد الصادرة عن هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية بشأن اتفاقيات مستوى الخدمة، واستمرارية الأعمال، والتعافي من الكوارث، وإدارة المخاطر لضمان المرونة التشغيلية. لا يحق لمقدمي الخدمات إعفاء أنفسهم من المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن انقطاعات الخدمة أو ضعف الأمان دون وجود اتفاقيات واضحة مع العملاء، كما ويجب عليهم إبلاغ العملاء بتغطيتهم التأمينية. وفي حال قرر مقدم الخدمات إيقاف العمليات، يجب عليه إخطار هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية والعملاء، والاستمرار في تقديم الخدمات لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر؛ لتسهيل الانتقال السلس (ما لم يتفق مع العميل على فترة أقصر). يجب على مقدمي الخدمات الذين يقدمون خدمات الحوسبة السحابية التسجيل بشكل منفصل لدى هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، ويجب على مقدمي الخدمات الحاملين لتراخيص الاتصالات ضمان الامتثال ضمن المجالات المتداخلة. بالإضافة إلى ذلك، يجب على مقدمي الخدمات المحافظة على بيانات تشغيلية دقيقة وتلبية المؤهلات التقنية الصارمة؛ لضمان الامتثال والحصول على الموافقة على التسجيل. تعمل هذه الأحكام معًا على تعزيز الشفافية التشغيلية وحماية العملاء والتوافق التنظيمي؛ مما يدعم نظامًا بيئيًا مرنًا وتنافسيًا لمراكز البيانات في المملكة العربية السعودية.
والجدير ذكره أن التسجيلات تصدر لفترات تتجدد كل ثلاث سنوات وهي غير قابلة للنقل.
لوائح الحوسبة السحابية
تضع لوائح تقديم خدمات الحوسبة السحابية والأدلة المصاحبة التي أصدرتها هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات إطاراً شاملاً لمقدمي خدمات الحوسبة السحابية، إذ تؤكد على الشفافية التشغيلية وسيادة البيانات والامتثال للمعايير الفنية. يصنف مقدمي الخدمات إلى ثلاث فئات: الفئة (أ - ب – ج) بناءً على حساسية البيانات المسموح لهم بالتعامل معها، والتي تتراوح بين بيانات القطاع الخاص إلى بيانات على المستوى الحكومي. يجب على مقدمي الخدمات الإفصاح بوضوح في عقودهم عن التفاصيل التشغيلية الرئيسة، والتي تشمل مواقع تخزين البيانات وخطط استمرارية الخدمة وتدابير التعافي من الكوارث والشروط التي تحكم نقل البيانات الدولية. تتطلب متطلبات التسجيل الامتثال لمعايير تقنية وأمن سيبراني صارمة، مثل شهادات مستوى، والالتزام بمعيار ISO/IEC 27001، وإرشادات الهيئة الوطنية للأمن السيبراني. كما يخضع مقدمي الخدمات لتقييمات مستمرة لضمان الامتثال للالتزامات التنظيمية. تهدف هذه اللوائح والأدلة إلى ضمان توافق خدمات الحوسبة السحابية في المملكة العربية السعودية مع أفضل الممارسات الدولية، وحماية سيادة البيانات وأهداف الأمن في المملكة.
حماية البيانات والأمن السيبراني
تعد حماية البيانات جانبًا أساسيًا من الإطار التنظيمي للمملكة العربية السعودية. يحكم نظام حماية البيانات الشخصية جمع البيانات الشخصية ومعالجتها وتخزينها داخل المملكة. يركز هذا النظام على مبادئ رئيسة مثل المعالجة على أسس قانونية (مثل موافقة المستخدم) وتقليل البيانات والشفافية والتوافق في بعض الجوانب مع اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي.
وبالنسبة لمشغلي مراكز البيانات، يعد الامتثال لنظام حماية البيانات الشخصية ضروريًا للحفاظ على ثقة العملاء وتجنب العواقب القانونية. يجب على المشغلين تنفيذ أطر حوكمة بيانات قوية؛ لضمان أن جميع أنشطة المعالجة تتم وفق أساس قانوني. كما يُوصى بإجراء عمليات تدقيق منتظمة وتقييمات امتثال لإثبات المساءلة.
يعد الأمن السيبراني مجالاً مهمًا آخر يركز عليه. تفرض لوائح الهيئة الوطنية للأمن السيبراني بروتوكولات أمان شاملة لحماية البنية التحتية الحساسة من التهديدات الناشئة. كما يُطلب من مشغلي مراكز البيانات أيضًا:
- إجراء تقييمات سنوية للمخاطر لتحديد الثغرات الأمنية.
- إنشاء آليات استجابة للحوادث تكون قادرة على التعامل مع الهجمات الإلكترونية، بما في ذلك هجمات الفدية وهجمات حجب الخدمة الموزعة.
- تنفيذ تقنيات التشفير المتقدمة لضمان أمان البيانات الحساسة.
وفي المستقبل، من المتوقع أن يصبح التشفير المقاوم للكم تحديًا أساسيًا مع تطور تقنيات الحوسبة الكمية. كما يشجع المشغلين على تبني أنظمة اكتشاف التهديدات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، التي يمكن أن توفر مراقبة واستجابة في الوقت الفعلي.
تمويل مراكز البيانات: مواجهة متطلبات رأس المال المعقدة
يعد قطاع مراكز البيانات واحدًا من الصناعات الأكثر كثافة في رأس المال، إذ تتجاوز تكاليف تطوير المرافق فائقة النطاق غالباً مليار دولار. واستجابة لهذه المتطلبات المالية، يلجأ المشغلون والمستثمرون بشكل متزايد إلى نماذج تمويل مبتكرة.
وثمة اتجاه ناشئ في تمويل مراكز البيانات الدولية وهو فصل تمويل معدات تقنية المعلومات عن تمويل العقارات؛ مما يسمح للمشغلين بالحصول على معدلات فائدة أقل لعقود تأجير المعدات مع الحفاظ على المرونة لتوسيع العمليات. وبهذا الفصل، يمكن للمشغلين تنظيم جداول السداد وفقًا لدورة الحياة الأقصر لأصول تقنية المعلومات؛ وبذك تقليل التكاليف الإجمالية.
اكتسب التوريق القائم على الأصول أيضًا شعبية، لا سيما بين مقدمي الخدمات الضخمة والمشتركة. من خلال توريق العقود طويلة الأجل مع العملاء الرئيسيين مثل أمازون ومايكروسوفت، يمكن للمشغلين الوصول إلى تدفقات إيرادات مستقرة، مما يتيح شروط تمويل ملائمة. شهدت هياكل التوريق القائم على الأصول نجاحًا خاصًا في الولايات المتحدة وتكتسب اهتمامًا في أوروبا. قد تُفكر المملكة في هذه الهياكل في المستقبل مع تقدم الأطر القانونية لاستيعاب مثل هذه التمويلات.
بالإضافة إلى هذه النماذج، أصبحت السندات الخضراء والقروض المرتبطة بالاستدامة أدوات تمويل شائعة. ترتبط هذه الأدوات بالشروط المالية بمقاييس الأداء البيئي مثل كفاءة استخدام الطاقة، واعتماد الطاقة المتجددة، وكفاءة استخدام المياه. فعلى سبيل المثال، يمكن للمشغلين الذين يحققون أو يتجاوزون الأهداف المحددة المتعلقة بالتعامل مع متطلبات المشهد البيئي والاجتماعي والحوكمة الحصول على فوائد مثل تخفيض معدلات الفائدة؛ مما يجعل الحوافز المالية تتماشى مع أهداف الاستدامة.
اعتبارات التعامل مع متطلبات المشهد التنظيمي والمالي والبيئي والاجتماعي والحوكمة: الموازنة بين النمو والاستدامة
تُعد مبادئ البيئة والاجتماعية والحوكمة أساسية لرؤية المملكة 2030. تخضع مراكز البيانات، بصفتها مستهلكة كبيرة للطاقة، لتمحيص أكثر بشأن تأثيرها البيئي. ولمعالجة ذلك، يحتاج المشغلون إلى النظر في:
- اعتماد حلول الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
- تنفيذ تقنيات تبريد موفرة للطاقة لتقليل استهلاك الكهرباء.
- المشاركة في برامج تعويض الكربون للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
اجتماعيًا، يعزز الامتثال لأنظمة حماية البيانات (مثل نظام حماية البيانات الشخصية ، وغيرها حيثما كان ذلك مناسبًا) الثقة لدى المستهلكين، بينما تضيف المبادرات المجتمعية قيمة اجتماعية للقطاع. يستثمر المشغلون في تطوير المواهب المحلية، بتقديم برامج تدريبية وإيجاد فرص عمل.
تعد ممارسات الحوكمة ذات أهمية مماثلة. إذ أصبح من المتوقع بين المستثمرين العالميين الحصول على تقارير ذات شفافية للبيئة والاجتماعية والحوكمة، ومتوافقة مع الأطر مثل مبادرة الإبلاغ العالمية ومجلس معايير المحاسبة المستدامة. يجب أن يثبت المشغلون أيضًا إدارة سلسلة توريد أخلاقية، تضمن التزام البائعين والشركاء بمبادئ البيئة والاجتماعية والحوكمة.
توجد صناعة مراكز البيانات في المملكة العربية السعودية في نقطة تحول تحكمها أطر تنظيمية قوية، ونماذج تمويل مبتكرة، والتزام قوي بمبادئ البيئة والاجتماعية والحوكمة. وبالنسبة لأصحاب المصلحة، فإن التعامل مع هذا المشهد المعقد يتطلب نهجًا استباقيًا يوازن بين الامتثال والابتكار والاستدامة. ومن خلال مواءمة العمليات مع هذه الأولويات، يمكن للمشغلين والمستثمرين والممولين الوصول إلى فرص كبيرة والمساهمة في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030 الطموحة.